الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب جَوَازِ لَعْنِ الشَّيْطَانِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ وَالتَّعَوُّذِ مِنْهُ وَجَوَازِ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فِي الصَّلاَةِ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَعَتُّهُ» هُوَ بِذَالٍ مُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْعَيْن الْمُهْمَلَة، أَيْ خَنَقْته. قَالَ مُسْلِم وَفِي رِوَايَة أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة: «فَدَعَتَّهُ» يَعْنِي بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة، وَهُوَ صَحِيح أَيْضًا، وَمَعْنَاهُ دَفَعْته شَدِيدًا. وَالدَّعْت وَالدَّعّ: الدَّفْع الشَّدِيد، وَأَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ الْمُهْمَلَة، وَقَالَ: لَا تَصِحّ، وَصَحَّحَهَا غَيْره وَصَوَّبُوهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْمُعْجَمَة أَوْضَح وَأَشْهَر. وَفيه: دَلِيل عَلَى جَوَاز الْعَمَل الْقَلِيل فِي الصَّلَاة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَرْبِطهُ حَتَّى تُصْبِحُوا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ أَوْ كُلّكُمْ» فيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْجِنّ مَوْجُودُونَ، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَرَاهُمْ بَعْض الْآدَمِيِّينَ. وَأَمَّا قَوْل اللَّه تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَحْمُول عَلَى الْغَالِب، فَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَتهمْ مُحَالًا لَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ مِنْ رُؤْيَته إِيَّاهُ، وَمِنْ أَنَّهُ كَانَ يَرْبِطهُ لِيَنْظُرُوا كُلّهمْ إِلَيْهِ، وَيَلْعَب بِهِ وِلْدَان أَهْل الْمَدِينَة. قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: إِنَّ رُؤْيَتهمْ عَلَى خَلْقهمْ وَصُوَرهمْ الْأَصْلِيَّة مُمْتَنِعَة؛ لِظَاهِرِ الْآيَة إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ خُرِقَتْ لَهُ الْعَادَة، وَإِنَّمَا يَرَاهُمْ بَنُو آدَم فِي صُوَر غَيْر صُوَرهمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْآثَار. قُلْت: هَذِهِ دَعْوَى مُجَرَّدَة فَإِنْ لَمْ يَصِحّ لَهَا مُسْتَنَد فَهِيَ مَرْدُودَة. قَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازِرِيّ: الْجِنّ أَجْسَام لَطِيفَة رُوحَانِيَّة فَيَحْتَمِل أَنَّهُ تَصَوَّرَ بِصُورَةٍ يُمْكِن رَبْطه مَعَهَا، ثُمَّ يَمْتَنِع مِنْ أَنْ يَعُود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَأَتَّى اللَّعِب بِهِ، وَإِنْ خُرِقَتْ الْعَادَة أَمْكَنَ غَيْر ذَلِكَ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ ذَكَرْت قَوْل أَخِي سُلَيْمَان صَلَاة اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُخْتَصّ بِهَذَا فَامْتَنَعَ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبْطه، إِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْدِر عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمَّا تَذَكَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَاطَ ذَلِكَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْدِر عَلَيْهِ أَوْ تَوَاضُعًا وَتَأَدُّبًا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا» أَيْ ذَلِيلًا صَاغِرًا مَطْرُودًا مُبْعَدًا. قَوْله: (وَقَالَ اِبْن مَنْصُور: شُعْبَة عَنْ مُحَمَّد بْن زِيَاد) يَعْنِي قَالَ إِسْحَاق بْن مَنْصُور فِي رِوَايَته: حَدَّثَنَا النَّضْر قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَة عَنْ مُحَمَّد بْن زِيَاد، فَخَالَفَ رِوَايَة رَفِيقه إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم السَّابِقَة فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ قَالَ: شُعْبَة عَنْ مُحَمَّد بْن زِيَاد، وَقَالَ اِبْن إِبْرَاهِيم شُعْبَة قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ: مُحَمَّد بْن زِيَاد، وَفِي رِوَايَة اِبْن إِبْرَاهِيم مُحَمَّد وَهُوَ اِبْنُ زِيَاد. 843- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّه التَّامَّة» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل تَسْمِيَتهَا تَامَّة أَيْ لَا نَقْص فيها، وَيَحْتَمِل الْوَاجِبَة لَهُ الْمُسْتَحَقَّة عَلَيْهِ أَوْ الْمُوجِبَة عَلَيْهِ الْعَذَاب سَرْمَدًا. وَقَالَ الْقَاضِي: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْعَنك بِلَعْنَةِ اللَّه وَأَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْك» دَلِيل جَوَاز الدُّعَاء لِغَيْرِهِ وَعَلَى غَيْره بِصِيغَةِ الْمُخَاطَبَة، خِلَافًا لِابْنِ شَعْبَان مِنْ أَصْحَاب مَالِك فِي قَوْله: إِنَّ الصَّلَاة تَبْطُل بِذَاكَ، قُلْت: وَكَذَا قَالَ أَصْحَابنَا تَبْطُل الصَّلَاة بِالدُّعَاءِ لِغَيْرِهِ بِصِيغَةِ الْمُخَاطَبَة كَقَوْلِهِ لِلْعَاطِسِ: رَحِمَك اللَّه، أَوْ يَرْحَمك، وَلِمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ: وَعَلَيْك السَّلَام وَأَشْبَاهه، وَالْأَحَادِيث السَّابِقَة فِي الْبَاب الَّذِي قَبْله فِي السَّلَام عَلَى الْمُصَلِّي تُؤَيِّد مَا قَالَهُ أَصْحَابنَا، فَيُتَأَوَّل هَذَا الْحَدِيث أَوْ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة أَوْ غَيْر ذَلِكَ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَللَّه لَوْلَا دَعْوَة أَخِينَا سُلَيْمَان لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَب بِهِ وِلْدَان أَهْل الْمَدِينَة» فيه جَوَاز الْحَلِف مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف؛ لِتَفْخِيمِ مَا يُخْبِر بِهِ الْإِنْسَان وَتَعْظِيمه وَالْمُبَالَغَة فِي صِحَّته وَصِدْقه. وَقَدْ كَثُرَتْ الْأَحَادِيث بِمِثْلِ هَذَا. وَالْوِلْدَانُ الصِّبْيَانُ. .باب جَوَازِ حَمْلِ الصِّبْيَانِ فِي الصَّلاَةِ: 844- قَوْله: «وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْت زَيْنَب بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي الْعَاصِ بْن الرَّبِيع» يَعْنِي بِنْت زَيْنَب مِنْ زَوْجهَا أَبِي الْعَاصِ بْن الرَّبِيع وَقَوْله: اِبْن الرَّبِيع هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور فِي كُتُب أَسْمَاء الصَّحَابَة وَكُتُب الْأَنْسَاب وَغَيْرهَا، وَرَوَاهُ أَكْثَر رُوَاة الْمُوَطَّأ عَنْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فَقَالُوا: اِبْن رَبِيعَة، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقَالَ الْأَصِيلِيّ: هُوَ اِبْن الرَّبِيع بْن رَبِيعَة، فَنَسَبَهُ مَالِك إِلَى جَدّه. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْر مَعْرُوف، وَنَسَبُهُ عِنْد أَهْل الْأَخْبَار وَالْأَنْسَاب بِاتِّفَاقِهِمْ أَبُو الْعَاصِ بْن الرَّبِيع بْن عَبْد الْعُزَّى بْن عَبْد شَمْس بْن عَبْد مَنَافٍ. وَاسْم أَبِي الْعَاصِ لَقِيط، وَقِيلَ: مُهَشَّم، وَقِيلَ: غَيْر ذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. 845- وَقَوْله: «رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمّ النَّاس وَأُمَامَة عَلَى عَاتِقه» هَذَا يَدُلّ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ يَجُوز حَمْل الصَّبِيّ وَالصَّبِيَّة وَغَيْرهمَا مِنْ الْحَيَوَان الطَّاهِر فِي صَلَاة الْفَرْض وَصَلَاة النَّفْل، وَيَجُوز ذَلِكَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُوم، وَالْمُنْفَرِد، وَحَمَلَهُ أَصْحَاب مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى النَّافِلَة، وَمَنَعُوا جَوَاز ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَة، وَهَذَا التَّأْوِيل فَاسِد، لِأَنَّ قَوْله: يَؤُمّ النَّاس صَرِيح أَوْ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْفَرِيضَة، وَادَّعَى بَعْض الْمَالِكِيَّة أَنَّهُ مَنْسُوخ، وَبَعْضهمْ أَنَّهُ خَاصّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضهمْ أَنَّهُ كَانَ لِضَرُورَةٍ، وَكُلّ هَذِهِ الدَّعَاوِي بَاطِلَة وَمَرْدُودَة، فَإِنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا ضَرُورَة إِلَيْهَا، بَلْ الْحَدِيث صَحِيح صَرِيح فِي جَوَاز ذَلِكَ، وَلَيْسَ فيه مَا يُخَالِف قَوَاعِد الشَّرْع؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِر، وَمَا فِي جَوْفه مِنْ النَّجَاسَة مَعْفُوّ عَنْهُ لِكَوْنِهِ فِي مَعِدَته، وَثِيَاب الْأَطْفَال وَأَجْسَادهمْ عَلَى الطَّهَارَة، وَدَلَائِل الشَّرْع مُتَظَاهِرَة عَلَى هَذَا. وَالْأَفْعَال فِي الصَّلَاة لَا تُبْطِلهَا إِذَا قَلَّتْ أَوْ تَفَرَّقَتْ، وَفَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا- بَيَانًا لِلْجَوَازِ، وَتَنْبِيهًا بِهِ عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِد الَّتِي ذَكَرْتهَا، وَهَذَا يَرُدُّ مَا اِدَّعَاهُ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ أَنَّ هَذَا الْفِعْل يُشْبِه أَنْ يَكُون مِنْ غَيْر تَعَمُّد، فَحَمَلَهَا فِي الصَّلَاة لِكَوْنِهَا كَانَتْ تَتَعَلَّق بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَدْفَعهَا فَإِذَا قَامَ بَقِيَتْ مَعَهُ، قَالَ: وَلَا يُتَوَهَّم أَنَّهُ حَمَلَهَا وَوَضَعَهَا مَرَّة بَعْد أُخْرَى عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ عَمَل كَثِير وَيَشْغَل الْقَلْب، وَإِذَا كَانَتْ الْخَمِيصَة شَغَلَتْهُ فَكَيْف لَا يَشْغَلهُ هَذَا؟ هَذَا كَلَام الْخَطَّابِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ بَاطِل، وَدَعْوَى مُجَرَّدَة، وَمِمَّا يَرُدّهَا قَوْله فِي صَحِيح مُسْلِم فَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا. وَقَوْله: «فَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُود أَعَادَهَا»، وَقَوْله فِي رِوَايَة مُسْلِم: «خَرَجَ عَلَيْنَا حَامِلًا أُمَامَةَ فَصَلَّى» فَذَكَرَ الْحَدِيث. وَأَمَّا قَضِيَّة الْخَمِيصَة فَلِأَنَّهَا تَشْغَل الْقَلْب بِلَا فَائِدَة، وَحَمْل أُمَامَةَ لَا نُسَلِّم أَنَّهُ يَشْغَل الْقَلْب، وَإِنْ شَغَلَهُ فَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَوَائِد، وَبَيَان قَوَاعِد مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْره، فَأُحِلّ ذَلِكَ الشَّغْل لِهَذِهِ الْفَوَائِد، بِخِلَافِ الْخَمِيصَة. فَالصَّوَاب الَّذِي لَا مَعْدِل عَنْهُ: أَنَّ الْحَدِيث كَانَ لِبَيَانِ الْجَوَاز وَالتَّنْبِيه عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِد، فَهُوَ جَائِز لَنَا، وَشَرْع مُسْتَمِرّ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْم الدِّين. وَاللَّهُ أَعْلَم. .باب جَوَازِ الْخُطْوَةِ وَالْخُطْوَتَيْنِ فِي الصَّلاَةِ: قَالَ الْعُلَمَاء: كَانَ الْمِنْبَر الْكَرِيم ثَلَاث دَرَجَات، كَمَا صَرَّحَ بِهِ مُسْلِم فِي رِوَايَته فَنَزَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُطْوَتَيْنِ إِلَى أَصْل الْمِنْبَر ثُمَّ سَجَدَ فِي جَنْبه، فَفيه فَوَائِد مِنْهَا اِسْتِحْبَاب اِتِّخَاذ الْمِنْبَر. وَاسْتِحْبَاب كَوْن الْخَطِيب وَنَحْوه عَلَى مُرْتَفِع كَمِنْبَرٍ أَوْ غَيْره، وَجَوَاز الْفِعْل الْيَسِير فِي الصَّلَاة، فَإِنَّ الْخُطْوَتَيْنِ لَا تَبْطُل بِهِمَا الصَّلَاة، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكه إِلَّا لِحَاجَةٍ، فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ فَلَا كَرَاهَة فيه، كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفيه أَنَّ الْفِعْل الْكَثِير كَالْخُطُوَاتِ وَغَيْرهَا إِذَا تَفَرَّقَتْ لَا تُبْطِل؛ لِأَنَّ النُّزُول عَنْ الْمِنْبَر وَالصُّعُود تَكَرَّرَ. وَجُمْلَته كَثِيرَة، وَلَكِنَّ أَفْرَاده الْمُتَفَرِّقَة كُلّ وَاحِد مِنْهَا قَلِيل. وَفيه: جَوَاز صَلَاة الْإِمَام عَلَى مَوْضِع أَعْلَى مِنْ مَوْضِع الْمَأْمُومِينَ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَه اِرْتِفَاع الْإِمَام عَلَى الْمَأْمُوم، وَارْتِفَاع الْمَأْمُوم عَلَى الْإِمَام لِغَيْرِ حَاجَة، فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ بِأَنْ أَرَادَ تَعْلِيمهمْ أَفْعَال الصَّلَاة لَمْ يُكْرَه، بَلْ يُسْتَحَبّ لِهَذَا الْحَدِيث، وَكَذَا إِنْ أَرَادَ الْمَأْمُوم إِعْلَام الْمَأْمُومِينَ بِصَلَاةِ الْإِمَام وَاحْتَاجَ إِلَى الِارْتِفَاع. وَفيه: تَعْلِيم الْإِمَام الْمَأْمُومِينَ أَفْعَال الصَّلَاة وَأَنَّهُ لَا يَقْدَح ذَلِكَ فِي صَلَاته، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَاب التَّشْرِيك فِي الْعِبَادَة، بَلْ هُوَ كَرَفْعِ صَوْته بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَهُمْ. 847- قَوْله: «تَمَارَوْا فِي الْمِنْبَر» أَيْ اِخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا. قَالَ أَهْل اللُّغَة الْمِنْبَر مُشْتَقّ مِنْ النَّبْر وَهُوَ الِارْتِفَاع. قَوْله: «أَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اِمْرَأَة اُنْظُرِي غُلَامك النَّجَّار يَعْمَل لِي أَعْوَادًا» هَكَذَا رَوَاهُ سُهَيْل بْن سَعْد، وَفِي رِوَايَة جَابِر فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَغَيْره أَنَّ الْمَرْأَة قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّه أَلَا أَجْعَل لَك شَيْئًا تَقْعُد عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا؟ قَالَ: إِنْ شِئْت؛ فَعَمِلَتْ الْمِنْبَر. وَهَذِهِ الرِّوَايَة فِي ظَاهِرهَا مُخَالِفَة لِرِوَايَةِ سُهَيْل، وَالْجَمْع بَيْنهمَا أَنَّ الْمَرْأَة عَرَضَتْ هَذَا أَوَّلًا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُب تَنْجِيز ذَلِكَ. قَوْله: «فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلَاث دَرَجَات» هَذَا مِمَّا يُنْكِرهُ أَهْل الْعَرَبِيَّة وَالْمَعْرُوف عِنْدهمْ أَنْ يَقُول: ثَلَاث الدَّرَجَات، أَوْ الدَّرَجَات الثَّلَاث. وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِكَوْنِهِ لُغَة قَلِيلَة. وَفيه تَصْرِيح بِأَنَّ مِنْبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ثَلَاث دَرَجَات. قَوْله: «فَهِيَ مِنْ طُرَفَاء الْغَابَة» الطُّرَفَاء مَمْدُودَة. وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ وَغَيْره: «مِنْ أَثْل الْغَابَة» بِفَتْحِ الْهَمْزَة. وَالْأَثْل: الطُّرَفَاء، وَالْغَابَة مَوْضِع مَعْرُوف مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَة. قَوْله: «ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ» هَكَذَا هُو: (رَفَعَ) بِالْفَاءِ، أَيْ رَفَعَ رَأْسه مِنْ الرُّكُوع. وَالْقَهْقَرَى: هُوَ الْمَشْي إِلَى خَلْف، وَإِنَّمَا رَجَعَ الْقَهْقَرَى لِئَلَّا يَسْتَدْبِر الْقِبْلَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَاللَّام الْمُشَدَّدَة أَيْ تَتَعَلَّمُوا، فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صُعُوده الْمِنْبَر، وَصَلَاته عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لِلتَّعْلِيمِ؛ لِيَرَى جَمِيعهمْ أَفْعَاله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْض فَإِنَّهُ لَا يَرَاهُ إِلَّا بَعْضهمْ مِمَّنْ قَرُبَ مِنْهُ. قَوْله: (يَعْقُوب بْن عَبْد الرَّحْمَن الْقَارِيّ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاء سَبَقَ بَيَانه مَرَّات، مَنْسُوب إِلَى الْقَارَّة، الْقَبِيلَة الْمَعْرُوفَة. قَوْله فِي آخِر الْبَاب: (وَسَاقُوا الْحَدِيث نَحْو حَدِيث اِبْن أَبِي حَازِم) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (وَسَاقُوا) بِضَمِيرِ الْجَمْع، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُول: (وَسَاقَا) لِأَنَّ الْمُرَاد بَيَان رِوَايَة يَعْقُوب بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَسُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي حَازِم، فَهُمَا شَرِيكَا اِبْن أَبِي حَازِم فِي الرِّوَايَة عَنْ أَبِي حَازِم، وَلَعَلَّهُ أَتَى بِلَفْظِ الْجَمْع وَمُرَاده الِاثْنَانِ، وَإِطْلَاق الْجَمْع عَلَى الِاثْنَيْنِ جَائِز بِلَا شَكّ، لَكِنْ هَلْ هُوَ حَقِيقَة أَمْ مَجَاز؟ فيه خِلَاف مَشْهُور. الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مَجَاز وَيَحْتَمِل أَنَّ مُسْلِمًا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَسَاقُوا، الرُّوَاة عَنْ يَعْقُوب وَعَنْ سُفْيَان وَهُمْ كَثِيرُونَ وَاللَّهُ أَعْلَم. .باب كَرَاهَةِ الاِخْتِصَارِ فِي الصَّلاَةِ: قَوْله: «نَهَى أَنْ يُصَلِّي الرَّجُل مُخْتَصِرًا» وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «نَهَى عَنْ الْخَصْر فِي الصَّلَاة». اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ، فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب وَالْمُحَدِّثِينَ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابنَا فِي كُتُب الْمَذْهَب؛ أَنَّ الْمُخْتَصِر هُوَ الَّذِي يُصَلِّي وَيَده عَلَى خَاصِرَته. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: قِيلَ: هُوَ أَنْ يَأْخُذ بِيَدِهِ عَصَا يَتَوَكَّأ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: أَنْ يَخْتَصِر السُّورَة فَيَقْرَأ مِنْ آخِرهَا آيَة أَوْ آيَتَيْنِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَحْذِف فَلَا يُؤَدِّي قِيَامهَا وَرُكُوعهَا وَسُجُودهَا وَحُدُودهَا، وَالصَّحِيح الْأَوَّل. قِيلَ: نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ فِعْل الْيَهُود. وَقِيلَ: فِعْل الشَّيْطَان. وَقِيلَ: لِأَنَّ إِبْلِيس هَبَطَ مِنْ الْجَنَّة كَذَلِكَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُتَكَبِّرِينَ. .باب كَرَاهَةِ مَسْحِ الْحَصَى وَتَسْوِيَةِ التُّرَابِ فِي الصَّلاَةِ: قَالَ الْقَاضِي: وَكَرِهَ السَّلَف مَسْح الْجَبْهَة فِي الصَّلَاة وَقَبْل الِانْصِرَاف يَعْنِي مِنْ الْمَسْجِد مِمَّا يَتَعَلَّق بِهَا مِنْ تُرَاب وَنَحْوه. .باب النَّهْيِ عَنِ الْبُصَاقِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا: 852- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا يَبْصُق قِبَل وَجْهه فَإِنَّ اللَّه قِبَل وَجْهه» أَيْ الْجِهَة الَّتِي عَظَّمَهَا. وَقِيلَ: فَإِنَّ قِبْلَة اللَّه. وَقِيلَ: ثَوَابه، وَنَحْو هَذَا، فَلَا يُقَابِل هَذِهِ الْجِهَة بِالْبُصَاقِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِخْفَاف بِمَنْ يَبْزُق إِلَيْهِ وَإِهَانَته وَتَحْقِيره. قَوْله: «رَأَى بُصَاقًا» وَفِي رِوَايَة: «مُخَاطًا» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْمُخَاط مِنْ الْأَنْف، وَالْبُصَاق وَالْبُزَاق مِنْ الْفَم، وَالنُّخَامَة وَهِيَ النُّخَاعَة مِنْ الرَّأْس أَيْضًا وَمِنْ الصَّدْر، وَيُقَال: تَنَخَّمَ وَتَنَخَّعَ. 853- قَوْله: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَبْزُق الرَّجُل عَنْ يَمِينه وَأَمَامه، وَلَكِنْ يَبْزُق عَنْ يَسَاره أَوْ تَحْت قَدَمه الْيُسْرَى» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِذَا كَانَ أَحَدكُمْ فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبّه، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْن يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينه؛ وَلَكِنْ عَنْ شِمَاله تَحْت قَدَمه» فيه: نَهْي الْمُصَلِّي عَنْ الْبُصَاق بَيْن يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينه، وَهَذَا عَامّ فِي الْمَسْجِد وَغَيْره. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلْيَبْزُقْ تَحْت قَدَمه وَعَنْ يَسَاره» هَذَا فِي غَيْر الْمَسْجِد أَمَّا الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فَلَا يَبْزُق إِلَّا فِي ثَوْبه لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبُزَاق فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة» فَكَيْف يَأْذَن فيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ الْبُصَاق عَنْ الْيَمِين تَشْرِيفًا لَهَا. وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «فَلَا يَبْصُق أَمَامه وَلَا عَنْ يَمِينه فَإِنَّ عَنْ يَمِينه مَلَكًا». قَالَ الْقَاضِي: وَالنَّهْي عَنْ الْبُزَاق عَنْ يَمِينه هُوَ مَعَ إِمْكَان غَيْره، فَإِنْ تَعَذَّرَ غَيْر الْيَمِين بِأَنْ يَكُون عَنْ يَسَاره مُصَلٍّ، فَلَهُ الْبُصَاق عَنْ يَمِينه، لَكِنْ الْأَوْلَى تَنْزِيه الْيَمِين عَنْ ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ. قَوْله: «رَأَى نُخَامَة فِي قِبْلَة الْمَسْجِد فَحَكَّهَا» فيه إِزَالَة الْبُزَاق وَغَيْره مِنْ الْأَقْذَار وَنَحْوهَا مِنْ الْمَسْجِد. 854- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَاره وَتَحْت قَدَمه، فَإِنْ لَمْ يَجِد فَلْيَقُلْ هَكَذَا، وَوَصَفَ الْقَاسِم فَتَفَلَ فِي ثَوْبه ثُمَّ مَسَحَ بَعْضه عَلَى بَعْض» هَذَا فيه: جَوَاز الْفِعْل فِي الصَّلَاة. وَفيه: أَنَّ الْبُزَاق وَالْمُخَاط وَالنُّخَاعَة طَاهِرَات، وَهَذَا لَا خِلَاف فيه بَيْن الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْبُزَاق نَجَس، وَلَا أَظُنُّهُ يَصِحّ عَنْهُ. وَفيه: أَنَّ الْبُصَاق لَا يُبْطِل الصَّلَاة، وَكَذَا التَّنَخُّع إِنْ لَمْ يَتَبَيَّن مِنْهُ حَرْفَانِ أَوْ كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ. 856- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبّه» إِشَارَة إِلَى إِخْلَاص الْقَلْب وَحُضُوره وَتَفْرِيغه لِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَتَمْجِيده وَتِلَاوَة كِتَابه وَتَدَبُّره. 858- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّفْل فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة» هُوَ بِفَتْحِ التَّاء الْمُثَنَّاة فَوْق، وَإِسْكَان الْفَاء وَهُوَ الْبُصَاق كَمَا فِي الْحَدِيث الْآخَر: «الْبُزَاق فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة». وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُزَاق فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة مُطْلَقًا، سَوَاء اِحْتَاجَ إِلَى الْبُزَاق أَوْ لَمْ يَحْتَجْ، بَلْ يَبْزُق فِي ثَوْبه فَإِنْ بَزَقَ فِي الْمَسْجِد فَقَدْ اِرْتَكَبَ الْخَطِيئَة، وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّر هَذِهِ الْخَطِيئَة بِدَفْنِ الْبُزَاق. هَذَا هُوَ الصَّوَاب أَنَّ الْبُزَاق خَطِيئَة كَمَا صَرَّحَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْعُلَمَاء وَالْقَاضِي عِيَاض: فيه كَلَام بَاطِل حَاصِله: أَنَّ الْبُزَاق لَيْسَ بِخَطِيئَةٍ إِلَّا فِي حَقّ مَنْ لَمْ يَدْفِنهُ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ دَفْنه فَلَيْسَ بِخَطِيئَةٍ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَشْيَاء بَاطِلَة فَقَوْله هَذَا غَلَط صَرِيح مُخَالِف لِنَصِّ الْحَدِيث، وَلِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاء. نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرّ بِهِ. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَفَّارَتهَا دَفْنهَا» فَمَعْنَاهُ: إِنْ اِرْتَكَبَ هَذِهِ الْخَطِيئَة فِعْلَيْهِ تَكْفِيرهَا، كَمَا أَنَّ الزِّنَا وَالْخَمْر وَقَتْلَ الصَّيْد فِي الْإِحْرَام مُحَرَّمَات وَخَطَايَا، وَإِذَا اِرْتَكَبَهَا فِعْلَيْهِ عُقُوبَتهَا، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِدَفْنِهَا فَالْجُمْهُور قَالُوا: الْمُرَاد دَفْنهَا فِي تُرَاب الْمَسْجِد وَرَمْله وَحَصَاته إِنْ كَانَ فيه تُرَاب أَوْ رَمْل أَوْ حَصَاة وَنَحْوهَا، وَإِلَّا فَيُخْرِجهَا. وَحَكَى الرُّويَانِيّ مِنْ أَصْحَابنَا قَوْلًا: أَنَّ الْمُرَاد إِخْرَاجهَا مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله: (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (سَأَلْت قَتَادَةَ فَقَالَ: سَمِعْت أَنَس بْن مَالِك) فيه: تَنْبِيه عَلَى أَنَّ قَتَادَةَ سَمِعَهُ مِنْ أَنَس، لِأَنَّ قَتَادَةَ مُدَلِّس، فَإِذَا قَالَ: (عَنْ) لَمْ يَتَحَقَّق اِتِّصَاله، فَإِذَا جَاءَ فِي طَرِيق آخَر سَمَاعه تَحَقَّقْنَا بِهِ اِتِّصَال الْأَوَّل، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْقَاعِدَة فِي الْفُصُول السَّابِقَة فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب ثُمَّ فِي مَوَاضِع بَعْدهَا. 859- قَوْله: (عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمُر عَنْ أَبِي الْأَسْوَد الدَّيْلِيّ) أَمَّا (يَعْمُر) فَبِفَتْحِ الْمِيم وَضَمّهَا وَسَبَقَ بَيَانه فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان، وَسَبَقَ بَعْده بِقَلِيلٍ بَيَان الْخِلَاف فِي الدَّيْلِيّ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَوَجَدْت فِي مَسَاوِي أَعْمَالهَا النُّخَاعَة تَكُون فِي الْمَسْجِد لَا تُدْفَن» هَذَا ظَاهِره أَنَّ هَذَا الْقُبْح وَالذَّمّ لَا يَخْتَصّ بِصَاحِبِ النُّخَاعَة، بَلْ يَدْخُل فيه هُوَ وَكُلّ مَنْ رَآهَا وَلَا يُزِيلهَا بِدَفْنٍ أَوْ حَكٍّ وَنَحْوه. .باب جَوَازِ الصَّلاَةِ فِي النَّعْلَيْنِ: .باب كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلاَمٌ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّهِ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: رَوَيْنَاهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْرهَا وَبِفَتْحِ الْبَاء وَكَسْرهَا أَيْضًا فِي غَيْر مُسْلِم، وَبِالْوَجْهَيْنِ ذَكَرَهَا ثَعْلَب قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ بِتَشْدِيدِ الْيَاء فِي آخِره وَبِتَخْفِيفِهَا مَعًا فِي غَيْر مُسْلِم، إِذْ هُوَ فِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ بِأَنْبِجَانِيَّهِ مُشَدَّد مَكْسُور عَلَى الْإِضَافَة إِلَى أَبِي جَهْم وَعَلَى التَّذْكِير، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «كِسَاء لَهُ أَنْبِجَانِيًّا». قَالَ ثَعْلَب: هُوَ كُلّ مَا كَثُفَ. قَالَ غَيْره: هُوَ كِسَاء غَلِيظ لَا عَلَم لَهُ فَإِذَا كَانَ لِلْكِسَاءِ عَلَم فَهُوَ خَمِيصَة، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ أَنْبِجَانِيَّه. وَقَالَ الدَّاوُدِيّ: هُوَ كِسَاء غَلِيظ بَيْن الْكِسَاء وَالْعَبَاءَة. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّه هُوَ كِسَاء سَدَاه قُطْن أَوْ كَتَّان وَلُحْمَته صُوف. وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا هُو: (مَنْبَجَانِيّ) وَلَا يُقَال أَنْبِجَانِيّ مَنْسُوب إِلَى مَنْبِج وَفَتْح الْبَاء فِي النَّسَب لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَج الشُّذُوذ، وَهُوَ قَوْل الْأَصْمَعِيّ قَالَ الْبَاجِيّ: مَا قَالَهُ ثَعْلَب أَظْهَر، وَالنَّسَب إِلَى (مَنْبِج) مَنْبَجِيّ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَغَلَتْنِي أَعْلَام هَذِهِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَلْهَتْنِي» وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ: «فَأَخَاف أَنْ تَفْتِنِّي» مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظ مُتَقَارِب وَهُوَ اِشْتِغَال الْقَلْب بِهَا عَنْ كَمَالِ الْحُضُور فِي الصَّلَاة وَتَدَبُّر أَذْكَارهَا وَتِلَاوَتهَا وَمَقَاصِدهَا مِنْ الِانْقِيَاد وَالْخُضُوع. فَفيه الْحَثّ عَلَى حُضُور الْقَلْب فِي الصَّلَاة وَتَدَبُّر مَا ذَكَرْنَاهُ وَمَنْع النَّظَر مِنْ الِامْتِدَاد إِلَى مَا يَشْغَل وَإِزَالَة مَا يَخَاف اِشْتِغَال الْقَلْب بِهِ، وَكَرَاهِيَة تَزْوِيق مِحْرَاب الْمَسْجِد وَحَائِطه وَنَقْشه وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الشَّاغِلَات؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْعِلَّة فِي إِزَالَة الْخَمِيصَة هَذَا الْمَعْنَى. وَفيه أَنَّ الصَّلَاة تَصِحّ وَإِنْ حَصَلَ فيها فِكْر فِي شَاغِل وَنَحْوه مِمَّا لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالصَّلَاةِ، وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاء. وَحُكِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف وَالزُّهَّاد مَا لَا يَصِحّ عَمَّنْ يُعْتَدّ بِهِ فِي الْإِجْمَاع. قَالَ أَصْحَابنَا: يُسْتَحَبّ لَهُ النَّظَر إِلَى مَوْضِع سُجُوده، وَلَا يَتَجَاوَزهُ. قَالَ بَعْضهمْ: يُكْرَه تَغْمِيض عَيْنَيْهِ، وَعِنْدِي لَا يُكْرَه إِلَّا أَنْ يَخَاف ضَرَرًا. وَفيه: صِحَّة الصَّلَاة فِي ثَوْب لَهُ أَعْلَام، وَأَنَّ غَيْره أَوْلَى. وَأَمَّا بَعْثه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَمِيصَةِ إِلَى أَبِي جَهْم وَطَلَب أَنْبِجَانِيَّه فَهُوَ مِنْ بَاب الْإِدْلَال عَلَيْهِ لِعِلْمِهِ، بِأَنَّهُ يُؤْثِر هَذَا وَيَفْرَح بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَاسْم أَبِي جَهْم هَذَا: عَامِر بْن حُذَيْفَة بْن غَانِم الْقُرَشِيّ الْعَدَوِيّ الْمَدَنِيّ الصَّحَابِيّ، قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمَد: وَيُقَال اِسْمه: عُبَيْد بْن حُذَيْفَة، وَهُوَ غَيْر أَبِي جُهَيْم- بِضَمِّ الْجِيم وَزِيَادَة يَاء عَلَى التَّصْغِير- الْمَذْكُور فِي بَاب التَّيَمُّم، وَفِي مُرُور الْمَارّ بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعه. .باب كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ الَّذِي يُرِيدُ أَكْلَهُ فِي الْحَالِ وَكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ مَعَ مُدَافَعَةِ الأَخْبَثَيْنِ: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَعْجَلَنَّ حَتَّى يَفْرُغ مِنْهُ» دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَأْكُل حَاجَته مِنْ الْأَكْل بِكَمَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب. وَأَمَّا مَا تَأَوَّلَهُ بَعْض أَصْحَابنَا عَلَى أَنَّهُ يَأْكُل لُقَمًا يَكْسِر بِهَا شِدَّة الْجُوع فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِهِ. 868- قَوْله: (حَدَّثَنَا الصَّلْت بْن مَسْعُود قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن مُوسَى) سُفْيَان هَذَا بَصْرِيّ ثِقَة مَعْرُوف. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ ثِقَة مَأْمُون، وَقَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ: هُوَ ثِقَة، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَجْهُول. 869- قَوْله: (وَكَانَ لَحَّانَة) هُوَ بِفَتْحِ اللَّام وَتَشْدِيد الْحَاء، أَيْ: كَثِير اللَّحْن فِي كَلَامه. قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (لُحْنَة) بِضَمِّ اللَّام وَإِسْكَان الْحَاء وَهُوَ بِمَعْنَى (لَحَّانَة). قَوْله: (اِبْن أَبِي عَتِيق) هُوَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَالْقَاسِم هُوَ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. قَوْله: (فَغَضِبَ وَأَضَبَّ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْبَاء الْمُوَحَّدَة أَيْ حَقَدَ. قَوْلهَا: (اِجْلِسْ غُدَر) هُوَ بِضَمِّ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفَتْح الدَّال، أَيْ يَا غَادِر. قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْغَدْر: تَرْكُ الْوَفَاء، وَيُقَال لِمَنْ غَدَرَ: غَادِر، وَغُدَر. وَأَكْثَر مَا يُسْتَعْمَل فِي النِّدَاء بِالشَّتْمِ. وَإِنَّمَا قَالَتْ لَهُ: (غُدَر)، لِأَنَّهُ مَأْمُور بِاحْتِرَامِهَا؛ لِأَنَّهَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَمَّته وَأَكْبَر مِنْهُ وَنَاصِحَة لَهُ وَمُؤَدِّبَة، فَكَانَ حَقّه أَنْ يَحْتَمِلهَا وَلَا يَغْضَب عَلَيْهَا. قَوْله: (أَخْبَرَنِي أَبُو حَزْرَة) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ زَاي سَاكِنَة ثُمَّ رَاء. وَاسْمه يَعْقُوب بْن مُجَاهِد، وَهُوَ يَعْقُوب بْن مُجَاهِد الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد الْأَوَّل، وَيُقَال: كُنْيَته أَبُو يُوسُف، وَأَمَّا أَبُو حَزْرَة فَلَقَب لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم. .باب نَهْيِ مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً أَوْ كُرَّاثًا أَوْ نَحْوَهَا عَنْ حُضُورِ الْمَسْجِدِ: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيّهَا النَّاس إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيم مَا أَحَلَّ اللَّه لِي» قَالَ الْعُلَمَاء: وَيَلْحَق بِالثَّوْمِ وَالْبَصَل وَالْكُرَّاث كُلّ مَا لَهُ رَائِحَة كَرِيهَة مِنْ الْمَأْكُولَات وَغَيْرهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَيَلْحَق بِهِ مَنْ أَكَلَ فُجْلًا وَكَانَ يَتَجَشَّى، قَالَ: وَقَالَ اِبْن الْمُرَابِط: وَيَلْحَق بِهِ مَنْ بِهِ بَخَر فِي فيه أَوْ بِهِ جُرْح لَهُ رَائِحَة. قَالَ الْقَاضِي: وَقَاسَ الْعُلَمَاء عَلَى هَذَا مَجَامِع الصَّلَاة غَيْر الْمَسْجِد، كَمُصَلَّى الْعِيد وَالْجَنَائِز وَنَحْوهَا مِنْ مَجَامِع الْعِبَادَات، وَكَذَا مَجَامِع الْعِلْم وَالذِّكْر وَالْوَلَائِم وَنَحْوهَا، وَلَا يَلْتَحِق بِهَا الْأَسْوَاق وَنَحْوهَا. 871- قَوْله: صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَة»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَة». فيه: تَسْمِيَة الثَّوْم شَجَرًا وَبَقْلًا. قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْبَقْل كُلّ نَبَات اِخْضَرَّتْ بِهِ الْأَرْض. 872- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَة فَلَا يَقْرَبَنَّا وَلَا يُصَلِّ مَعَنَا» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ: «وَلَا يُصَلِّ» عَلَى النَّهْي، وَوَقَعَ فِي أَكْثَر الْأُصُول: «وَلَا يُصَلِّي» بِإِثْبَاتِ الْيَاء عَلَى الْخَبَر الَّذِي يُرَاد بِهِ النَّهْي، وَكِلَاهُمَا صَحِيح. فيه: نَهْي مَنْ أَكَلَ الثَّوْم وَنَحْوه عَنْ حُضُور مَجْمَع الْمُصَلِّينَ، وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْر مَسْجِد، وَيُؤْخَذ مِنْهُ النَّهْي عَنْ سَائِر مَجَامِع الْعِبَادَات وَنَحْوهَا كَمَا سَبَقَ. 873- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدنَا وَلَا يُؤْذِيَنَّا» هُوَ بِتَشْدِيدِ نُون يُؤْذِيَنَّا. وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ، لِأَنِّي رَأَيْت مَنْ خَفَّفَهُ ثُمَّ اِسْتَشْكَلَ عَلَيْهِ إِثْبَات الْيَاء مَعَ أَنَّ إِثْبَات الْيَاء الْمُخَفَّفَة جَائِز عَلَى إِرَادَة الْخَبَر كَمَا سَبَقَ. 874- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ الْمَلَائِكَة تَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْس» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِتَشْدِيدِ الذَّال فيهمَا وَهُوَ ظَاهِر، وَوَقَعَ فِي أَكْثَر الْأُصُول: «تَأَذَّى مِمَّا يَأْذَى مِنْهُ الْإِنْس» بِتَخْفِيفِ الذَّال فيهمَا. وَهِيَ لُغَة يُقَال: أَذِيَ يَأْذَى مِثْل عَمِيَ يَعْمَى، وَمَعْنَاهُ: تَأَذَّى. قَالَ الْعُلَمَاء: وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى مَنْع آكِل الثَّوْم وَنَحْوه مِنْ دُخُول الْمَسْجِد- وَإِنْ كَانَ خَالِيًا- لِأَنَّهُ مَحَلّ الْمَلَائِكَة، وَلِعُمُومِ الْأَحَادِيث. 875- قَوْله: «أُتِيَ بِقِدْرٍ فيه خَضِرَاتٌ» هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ صَحِيح مُسْلِم كُلّهَا: «بِقِدْرٍ»، وَوَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَسُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرهمَا مِنْ الْكُتُب الْمُعْتَمَدَة: «أَتَى بِبَدْرِ» بِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ، قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَفَسَّرَ الرُّوَاة وَأَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب الْبَدْر بِالطَّبَقِ: قَالُوا: سَمَّى بَدْرًا لِاسْتِدَارَتِهِ كَاسْتِدَارَةِ الْبَدْر. 877- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَة الْخَبِيثَة» سَمَّاهَا خَبِيثَة لِقُبْحِ رَائِحَتهَا. قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْخَبِيث فِي كَلَام الْعَرَب الْمَكْرُوه مِنْ قَوْل أَوْ فِعْل أَوْ مَال أَوْ طَعَام أَوْ شَرَاب أَوْ شَخْص. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيّهَا النَّاس إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيم مَا أَحَلَّ اللَّه لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَة أَكْرَهُ رِيحهَا» فيه: دَلِيل عَلَى أَنَّ الثَّوْم لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَهُوَ إِجْمَاع مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي الثَّوْم هَلْ كَانَ حَرَامًا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَمْ كَانَ يَتْرُكهُ تَنَزُّهًا. وَظَاهِر هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ يَقُول: الْمُرَاد لَيْسَ لِي أَنْ أُحَرِّم عَلَى أُمَّتِي مَا أَحَلَّ اللَّه لَهَا. 878- قَوْله: «مَرَّ عَلَى زَرَّاعَة بَصَل» هِيَ بِفَتْحِ الزَّاي وَتَشْدِيد الرَّاء وَهِيَ الْأَرْضُ الْمَزْرُوعَةُ. 879- قَوْله: (حَدَّثَنَا هِشَام قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد عَنْ مَعْدَان بْن أَبِي طَلْحَة أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خَطَبَ يَوْم الْجُمُعَة) هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم، وَقَالَ: خَالَفَ قَتَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيث ثَلَاثَة حُفَّاظ وَهُمْ: مَنْصُور بْن الْمُعْتَمِر، وَحُصَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَعُمَر بْن مُرَّة؛ فَرَوَوْهُ عَنْ سَالِم عَنْ عُمَر مُنْقَطِعًا لَمْ يَذْكُرُوا فيه مَعْدَان. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَتَادَة وَإِنْ كَانَ ثِقَة وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة عِنْدنَا، فَإِنَّهُ مُدَلِّس، وَلَمْ يَذْكُر فيه سَمَاعه مِنْ سَالِم فَأَشْبَهَ أَنْ يَكُون بَلَغَهُ عَنْ سَالِم فَرَوَاهُ عَنْهُ، قُلْت هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ قَتَادَةَ وَإِنْ كَانَ مُدَلِّسًا، فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَوَاضِع مِنْ هَذَا الشَّرْح أَنَّ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ الْمُدَلِّسِينَ وَعَنْعَنُوهُ فَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ- مِنْ طَرِيق آخَر- سَمَاع ذَلِكَ الْمُدَلِّس هَذَا الْحَدِيث مِمَّنْ عَنْعَنَهُ عَنْهُ، وَأَكْثَر هَذَا أَوْ كَثِير مِنْهُ يَذْكُر مُسْلِم وَغَيْره سَمَاعه مِنْ طَرِيق آخَر مُتَّصِلًا بِهِ، وَقَدْ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُدَلِّس لَا يُحْتَجّ بِعَنْعَنَتِهِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي الْفُصُول الْمَذْكُورَة فِي مُقَدِّمَة هَذَا الشَّرْح، وَلَا شَكّ عِنْدنَا فِي أَنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى يَعْلَم هَذِهِ الْقَاعِدَة وَيَعْلَم تَدْلِيس قَتَادَةَ، فَلَوْلَا ثُبُوت سَمَاعه عِنْده لَمْ يَحْتَجّ بِهِ، وَمَعَ هَذَا كُلّه فَتَدْلِيسه لَا يَلْزَم مِنْهُ أَنْ يَذْكُر مَعْدَانًا مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون لَهُ ذِكْر، وَالَّذِي يَخَاف مِنْ الْمُدَلِّس أَنْ يَحْذِف بَعْض الرُّوَاة، أَمَّا زِيَادَة مَنْ لَمْ يَكُنْ فَهَذَا لَا يَفْعَلهُ الْمُدَلِّس، وَإِنَّمَا هَذَا فِعْل الْكَاذِب الْمُجَاهِر بِكَذِبِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَعْدَان زِيَادَة ثِقَة فَيَجِب قَبُولهَا. وَالْعَجَب مِنْ الدَّارَقُطْنِيِّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي كَوْنه جَعَلَ التَّدْلِيس مُوجِبًا لِاخْتِرَاعِ ذِكْر رَجُل لَا ذِكْر لَهُ وَنَسَبَهُ إِلَى مِثْل قَتَادَةَ الَّذِي مَحَلّه مِنْ الْعَدَالَة وَالْحِفْظ وَالْعِلْم بِالْغَايَةِ الْعَالِيَة. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق. قَوْله: «وَإِنَّ أَقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي أَنْ أَسْتَخْلِف، وَإِنَّ اللَّه لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّع دِينه وَلَا خِلَافَته» مَعْنَاهُ: إِنْ أَسْتَخْلِف فَحَسَن، وَإِنْ تَرَكْت الِاسْتِخْلَاف فَحَسَن، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَخْلِف؛ لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا يُضَيِّع دِينه، يُقِيم لَهُ مَنْ يَقُوم بِهِ. قَوْله: «فَإِنْ عَجِلَ بِي أَمْرٌ فَالْخِلَافَةُ شُورَى بَيْن هَؤُلَاءِ السِّتَّة» مَعْنَى (شُورَى) يَتَشَاوَرُونَ فيه وَيَتَّفِقُونَ عَلَى وَاحِد مِنْ هَؤُلَاءِ السِّتَّة: عُثْمَان وَعَلِيّ وَطَلْحَة وَزُبَيْر وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف. وَلَمْ يُدْخِل سَعِيد بْن زَيْد مَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَشَرَة؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَقَارِبه، فَتَوَرَّعَ عَنْ إِدْخَاله كَمَا تَوَرَّعَ عَنْ إِدْخَال اِبْنه عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. قَوْله: «وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ أَقْوَامًا يَطْعَنُونَ فِي هَذَا الْأَمْر» إِلَى قَوْله: «فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأُولَئِكَ أَعْدَاء اللَّه الْكَفَرَة الضُّلَّال» مَعْنَاهُ: إِنْ اِسْتَحَلُّوا ذَلِكَ فَهُمْ كَفَرَة ضُلَّال، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِلُّوا ذَلِكَ فَفِعْلهمْ فِعْل الْكَفَرَة. وَقَوْله: (يَطْعَنُونَ) بِضَمِّ الْعَيْن وَفَتْحهَا وَهُوَ الْأَصَحّ هُنَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَكْفِيك آيَة الصَّيْف الَّتِي فِي آخِر سُورَة النِّسَاء» مَعْنَاهُ: الْآيَة الَّتِي نَزَلَتْ فِي الصَّيْف، وَهِيَ قَوْل اللَّه تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} إِلَى آخِرهَا وَفيه: دَلِيل عَلَى جَوَاز قَوْل: سُورَة النِّسَاء وَسُورَة الْبَقَرَة، وَسُورَة الْعَنْكَبُوت وَنَحْوهَا، وَهَذَا مَذْهَب مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الْعُلَمَاء، وَالْإِجْمَاع الْيَوْم مُنْعَقِد عَلَيْهِ، وَكَانَ فيه نِزَاع فِي الْعَصْر الْأَوَّل، وَكَانَ بَعْضهمْ يَقُول: لَا يُقَال سُورَة كَذَا، إِنَّمَا يُقَال: السُّورَة الَّتِي يُذْكَرُ فيها كَذَا، وَهَذَا بَاطِل مَرْدُود بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة، وَاسْتِعْمَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مَفْسَدَة فيه، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُوم وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله: «لَقَدْ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَجَدَ رِيحهمَا مِنْ الرَّجُل فِي الْمَسْجِد أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيع» هَذَا فيه: إِخْرَاج مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رِيح الثَّوْم وَالْبَصَل وَنَحْوهمَا مِنْ الْمَسْجِد وَإِزَالَة الْمُنْكَر بِالْيَدِ لِمَنْ أَمْكَنَهُ. قَوْله: «فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا» مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ أَكْلهمَا فَلْيُمِتْ رَائِحَتهمَا بِالطَّبْخِ، وَإِمَاتَة كُلّ شَيْء كَسْر قُوَّته وَحِدَّته، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: قَتَلْت الْخَمْر إِذَا مَزَجَهَا بِالْمَاءِ وَكَسَرَ حِدَّتهَا.
|